فصل: قال صاحب روح البيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وتعقبه بعض الأجلة بقوله: وفيه بحث فإن فعل الهوى للأفئدة يبتدأ به لغاية ينتهي إليها، ألا يرى إلى قوله: {إِلَيْهِمُ} وفيه تأمل اهـ وكأن فيه إشارة إلى ما قيل: من أن الابتداء في {مِنْ} الإبتدائية إنما هو من متعلقها لا مطلقًا، وإن جعلناها متعلقة بتهوى لا يظهر لتأخيره ولتوسيط الجار فائدة، وذكر مولانا الشهاب في توجيه الابتداء وترجيحه على التبعيض كلامًا لا يخلو عن بحث فقال: اعلم أنه قال في الإيضاح أنه قد يكون القصد إلى الابتداء دون أن يقصد انهاء مخصوص إذ كان المعنى لا يقتضي إلا بالمبتدأ منه كأعوذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم، وزيد أفضل من عمرو.
وقد قيل: إن جميع معاني {مِنْ} دائرة على الابتداء، والتبعيض هنا لا يظهر فيه فائدة كما في قوله: {وَهَنَ العظم مِنّى} [مريم: 4] فإن كون قلب الشخص وعظمه بعضًا منه معنى مكشوف غير مقصود بالإفادة فلذا جعلت للإبتداء والظرف مستقر للتفخيم كأن ميل القلب نشأ من جملته مع أن ميل جملة كل شخص من جهة قلبه كما أن سقم قلب العاشق نشأ منه مع أنه إذا صلح صلح البدن كله، وإلى هذا نحا المحققون من شراح الكشاف لكنه معنى غامض فتدبر، والأفئدة مفعول أول لا جعل وهو جمع فؤاد وفسروه على ما في البحر.
وغيهر بالقلب لكن يقال له فؤاد إذا اعتبر فيه معنى التفؤد أي التوقد، يقال: فأدت اللحم أي شويته ولحم فئيد أي مشوي، وقيل: الأفئة هنا القطع من الناس بلغة قريش وإليه ذهب ابن بحر، والمفعول الثاني جملة {تَهْوَى} وأصل الهوى الهبوط بسرعة وفي كلام بعضهم السرعة، وكان حقه أن يعدي باللام كما في قوله:
حتى إذا ما هوت كف الوليد لها ** طارت وفي كفه من ريشها تبك

وإنما عدى بإلى لتضمينه معنى الميل كما في قوله:
تهوى إلى مكة تبغي الهدى ** ما مؤمن الجن كأنجاسها

ولما كان ما تقدم كالمبادى لإجابة دعائه عليه السلام وإعطاء مسؤوله جاء بالفاء في قوله: {فاجعل} إلى آخره وقرأ هشام {أفئيدة} بياء بعد الهمزة نص عليه الحلواني عنه، وخرج ذلك على الإشباع كما في قوله:
أعوذ بالله من العقراب ** الشائلات عقد الأذناب

ولما كان ذلك لا يكون إلا في ضرورة الشعر عند بعضهم قالوا: إن هشامًا قرأ بتسهيل الهمزة كالياء فعبر عنها الراوي بالياء فظن من أخطأ فهمه أنها بياء بعد الهمزة، والمراد بياء عوضًا من الهمزة.
وتعقب ذلك الحافظ أبو عمرو الداني بأن النقلة عن هشام كانوا من أعلم الناس بالقراءة ووجوهها فهم أجل من أن يعتقد فيهم مثل ذلك.
وقرئ {آفدة} على وزن ضاربة وفيه احتمالان:
أحدهما: أن يكون قدمت فيه الهمزة على الفاء فاجتمع همزتان ثانيتهما: ساكنة فقبلت ألفًا فوزنه أعفلة كما قيل في أدور جمع دار قلبت فيه الواو المضمومة همزة ثم قدمت وقلبت ألفًا فصار آدر.
وثانيهما: أنه اسم فاعل من أفد يأفد بمعنى قرب ودنا ويكون بمعنى عجل، وهو صفة لمحذوف أي جماعة أو جماعات آفدة.
وقرئ {أفدة} بفتح الهمزة من غير مد وكسر الفاء بعدها دال، وهو أما صفة من أفد بوزن خشنة فكيون بمعنى إفدة في القراءة الأخرى أو أصله أفئدة فنقلت حركة الهمزة إلى ما قبلها ثم طرحت وهو وجه مشهور عند الصرفيين والقراء.
قال الأولون: إذا تحركت الهمزة بعد ساكن صحيح تبقى أو تنقل حركتها إلى ما قبلها وتحذف، ولا يجوز جعلها بين بين لما فيه من شبه التقاء الساكنين، وقال صاحب النشر من الآخرين: الهمزة المتحركة بعد حرف صحيح ساكن كمسؤول وأفئدة وقرآن وظمآنان فيها وجه واحد وهو النقل وحكى وجه ثان وهو بين بين وهو ضعيف جدًا وكذا قال غيره منهم، فما قيل: إن الوجه إخراجها بين بين ليس بالوجه.
وقرأت أم الهيثم {أفودة} بالواو المكسورة بدل الهمزة، قال صاحب اللوامح: وهو جمع وفد، والقراءة حسنة لكني لا أعرف هذه المرأة بل ذكرها أبو حاتم اهـ.
وقال أبو حيان: يحتمل أنه أبدل الهمزة في فؤاد ثم جمع وأقرت الواو في الجمع إقرارها في المفرد أو هو جمع وفد كما قال صاحب اللوامح وقلب إذ الأصل أوفدة، وجمع فعل على أفعلة شاذ.
ونجد وأنجدة ووهى وأوهية، وأم الهيثم امرأة نقل عنها شيء من لغات العرب.
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما {إفادة} على وزن إمارة ويظهر أن الهمزة بدل من الواو المكسورة كما قالوا: إشاح في وشاح فالوزن فعالة أي فاجعل ذوي وفادة، ويجوز أن يكون مصدر أفاد إفادة أي ذوي إفادة وهم الناس الذين يفيدون وينتفع بهم.
وقرأ مسلمة بن عبد الله: {وَمَا تَهْوَى} بضم التاء مبنيًا للمفعول من أهوى المنقول بهمزة التعدية منهوى اللازم كأنه قيل: يسرع بها إليهم.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وجماعة من أهله ومجاهد {تَهْوَى} مضارع هو بمعنى أحب، وعدى بإلى لما تقدم {وارزقهم} أي ذريتي الذين أسكنتهم هناك.
وجوز أن يريدهم والذين ينحازون إليهم من الناس، وإنما لم يخص عليه السلام الدعاء بالمئمنين منهم كما في قوله: {وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات مَنْ ءامَنَ مِنْهُم بالله واليوم الآخر} [البقرة: 126] اكتفاء على ما قيل بذكر إقامة الصلاة.
{مِنَ الثمرات} من أنواعها بأن تجعل بقربهم قرى يحصل فيها ذلك أو تجبى إليهم من الأقطار الشاسعة وقد حصل كلا الأمرين حتى أنه يجتمع في مكة المكرمة البواكير والفواكه المختلفة الأزمان من الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن محمد بن مسلم الطائفي أن الطائفي كانت من أرض فلسطين فلما دعا إبراهيم عليه السلام بهذه الدعوة رفعها الله تعالى ووضعها حيث وضعها رزقًا للحرم.
وفي رواية أن جبريل عليه السلام اقتلعها فجاء وطاف بها حول البيت سبعًا ولذا سميت الطائف ثم وضعها قريب مكة.
وروى نحو ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الزهري أن الله تعالى نقل قرية من قرى الشام فوضعها بالطائف لدعوة إبراهيم عليه السلام.
والظاهر أن إبراهيم عليه السلام لم يكن مقصوده من هذا الدعاء نقل أرض منبتة من فلسطين أو قرية من قرى الشام وإنما مقصوده عليه السلام أن يرزقهم سبحانه من الثمرات وهو لا يتوقف على النقل، فلينظر ما وجه الحكمة فيه، وأنا لست على يقين من صحته ولا أنكر والعياذ بالله تعالى أن الله جل وعلا على كل شيء قدير وأنه سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد {لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} تلك النعمة بإقامة الصلاة وإداء سائر مراسم العبودية واستدل به على أن تحصيل منافع الدنيا إنما هي ليستعان بها على أداء العبادات وإقامة الطاعات، ولا يخفى ما في دعائه عليه السلام من مراعاة حسن الأدب والمحافظة على قوانين الضراعة وعرض الحاجة واستنزال الرحمة واستجلاب الرأفة، ولذا من عليه بحسن القبول وإعطاء المسؤول، ولا بدع في ذلك من خليل الرحمن عليه السلام. اهـ.

.قال صاحب روح البيان:

{وإذ قال إبراهيم}.
واذكر وقت قول إبراهيم في مناجاته أي بعد الفراغ من بناء البيت رب اجعل هذا البلد آمنا أهله بحيث لا يخاف فيه من المخاوف والمكاره كالقتل والغارة والأمراض المنفرة من البرص والجذام ونحوهما فإسناد الأمن إلى البلد مجاز لوقوع الأمن فيه وإنما الآمن في الحقيقة أهل البلد واجنبني وبني يقال جنبه كنصره وأجنبته وجنبته أي أبعدته.
والمعنى بعدني وإياهم أن نعبد الأصنام واجعلنا منه في جانب بعيد، أي ثبتنا على ما كنا عليه من التوحيد وملة الإسلام والبعد عن عبادة الأصنام.
قال بعضهم: رأى القوم يعبدون الأصنام فخاف على بنيه فدعا.
يقول الفقير: الجمهور على أن العرب من عهد إبراهيم استمرت على دينه من رفض عبادة الأصنام إلى زمن عمرو بن لحي كبير خزاعة فهو أول من غير دين إبراهيم وشرع للعرب الضلالات وهو أول من نصب الأوثان في الكعبة وعبدها، وأمر الناس بعبادتها وقد كان أكثر الناس في الأرض المقدسة عبدة الأصنام وكان إبراهيم يعرفه فخاف سرايته إلى كل بلد فيه واحد من أولاده فدعا فعصم أولاده الصلبية من ذلك، وهي المرادة من قوله: وبنى فإنه لم يعبد أحد منهم الصنم لا هي وأحفاده وجميع ذريته وذلك لأن قريشًا مع كونهم من أولاد إسماعيل عبادتهم الأصنام مشهورة وأما قوله تعالى في حم الزخرف: {وجعلها كلمة باقية في عقبه} [الزخرف: 28] فالصحيح أن هذا لا يستلزم تباعد جميع الأحفاد عن عبادة الأصنام بل يكفي في بقاء كلمة التوحيد في عقبه أن لا ينقرض قرن ولا ينقضى زمان إلا وفي ذريته من هو من أهل التوحيد قلوا أو كثروا إلى زمان نبينا صلى الله عليه وسلّم وقد اشتهر في كتب السير أن بعض آحاد العرب لم يعبد الصنم قط ويدل عليه قوله عليه السلام: «لا تسبوا مضر فإنه كان على ملة إبراهيم» هذا ما لاح لي من التحقيق ومن الله التوفيق.
وإنما جمع الأصنام ليشتمل على كل صنم عبد من دون الله لأن الجمع المعرف باللام يشمل كل واحد من الأفراد كالمفرد باتفاق جمهور أئمة التفسير والأصول والنحو، أي واجنبنا أن نعبد أحدًا مما سمى بالصنم كما في بحر العلوم.
وخصصها الامام الغزالي بالحجرين أي الذهب والفضة إذ رتبة النبوة أجل من أن يخشى فيها أن تعتقد الإلهية في شيء من الحجارة فاستعاذ إبراهيم من الاغترار بمتاع الدنيا.
يقول الفقير: الظاهر أن الإمام الغزالي خصص الحجرين بالذكر بناء على أنهما أعظم ما يضل الناس وقد شبه رسول الله صلى الله عليه وسلّم طلاب الدراهم والدنانير بعبدة الحجارة فقال: «تعس عبد الدراهم تعس عبد الدنانير» وإلا فكل ما هو من قبيل الهوى فهو صنم ألا ترى إلى قوله تعالى: {أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَه هَوَاهُ} [الجاثية: 23].
ولذا قال في التأويلات النجمية:
صنم النفس الدنيا.
وصنم القلب العقبى.
وصنم الروح الدرجات العلى.
وصنم السر عرفان القربات.
وصنم الخفي الركون إلى المكاشفات والمشاهدات وأنواع الكرامات فلابد من الفناء عن الكل.
قال شيخي وسندي روّح الله روحه في بعض المجالس، معي أهل الدنيا كثير وأهل العقبى قليل، وأهل المولى أقل من القليل وذلك كالسلاطين والملوك فإنهم بالنسبة إلى الوزراء أقل وهم بالنسبة إلى سائر أرباب الجاه كذلك، وهم بالنسبة إلى الرعية كذلك فالرعايا كثيرون وأقل منهم أرباب الجاه وأقل منهم الوزراء وأقل منهم السلاطين فلابد من ترك الأصنام مطلقًا وأعظم الحجب والأصنام الوجود.
وفي الآية: دليل على أن عصمة الأنبياء بتوفيق الله تعالى وحقيقة العصمة أن لا يخلق الله تعالى في العبد ذنبًا مع بقاء قدرته واختياره ولهذا قال الشيخ أبو منصور: العصمة لا تزيل المحنة أي التكليف فينبغي للمؤمن أن لا يأمن على إيمانه وينبغي أن يكون متضرعًا إلى الله ليثبته على الإيمان كما سأل إبراهيم لنفسه ولبنيه الثبات على الإيمان وروى عن يحيى بن معاذ أنه كان يقول: اللهم أن جميع سروري بهذا الايمان وأخاف أن تنزعه مني فما دام هذا الخوف معي رجوت أن لا تنزعه مني.
[يوسف: 33-51]{رَبِّ إِنَّهُنَّ} أي: الأصنام أضللن كثيرًا من الناس ولذلك سألت منك أن تعصمني وبني من إضلالهن، واستعذت بك منه، يقول: بهن ضل كثير من الناس، فكان الأصنام سببًا لضلالتهم فنسب الاضلال إليهن وإن لم يكن منهن عمل في الحقيقة كقوله تعالى: {وغرتهم الحياة الدنيا} [الأنعام: 70] أي اغتروا بسببها وقال بعضهم كان الاضلال منهن لأن الشياطين كانت تدخل أجواف الأصنام وتتكلم كما حكى أن واحدًا من الشياطين دخل جوف صنم أبي جهل فأخذ يتحرك ويتكلم في حق النبي عليه السلام كلمات قبيحة فأمر الله واحدًا من الجن فقتل ذلك الشيطان ثم لما كان الغد واجتمع الناس حول ذلك الصنم أخذ يتحرك ويقول لا إله إلا الله محمد رسول الله وأنا صنم لا ينفع ولا يضر ويل لمن عبدني من دون الله فلما سمعوا ذلك قام أبو جهل وكسر صنمه وقال إن محمدًا سحر الأصنام.
{فَمَن تَبِعَنِى} منهم فيما أدعوا إليه من التوحيد وملة الإسلام.
{فإنه مني} من تبعيضية فالكلام على التشبيه أي كبعضي في عدم الانفكاك عني، وكذلك قوله: «من غشنا فليس منا» أي ليس بعض المؤمنين على أن الغش ليس من أفعالهم وأوصافهم ومن عصاني أي لم يتبعني فإنه في مقابلة تبعني كتفسير الكفر في مقابلة الشكر بترك الشكر.
فإنك غفور رحيم قادر على أن تغفر له وترحمه ابتداء وبعد توبته.
وفي دليل على أن كل ذنب فللَّه تعالى أن يغفره حتى الشرك إلا أن الوعيد فرق بينه وبين غيره فالشرك لا يغفر بدليل السمع وهو قوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به} [النساء: 116] وإن جاز غفرانه عقلًا فإن العقاب حقه تعالى فيحسن إسقاطه مع أن فيه نفعًا للعبد من غير ضرر لأحد وهو مذهب الأشعري.
وفي التأويلات النجمية قد حفظ الأدب فيما قال ومن عصاني وما قال ومن عصاك لأنه بعصيان الله لا يستحق المغفرة والرحمة والإشارة فيه أن من عصاني لعلي لا أغفر له ولا أرحم عليه فإن المكافاة في الطبيعة واجبة ولكن من عصاني فتغفر له وترحم عليه فيكون من غاية كرمك وعواطف إحسانك فإنك غفور رحيم وفي الحديث: «ينادي مناد من تحت العرش يوم القيامة يا أمة محمد أمّا ما كان لي من قبلكم فقد وهبت لكم» يعني كناهى كه درميان من وشماست بخشيدم. «وبقيت التبعات فتواهبوها وادخلوا الجنة برحمتي» والتبعات جمع تبعة بكسر الباء ما اتبع به من الحق.
وذكر أن يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله قال إلهي إن كان ثوابك للمطيعين فرحمتك للمذنبين إني وإن كنت لست بمطيع فأرجو ثوابك وأنا من المذنبين فأرجو رحمتك. اهـ.

.قال القاسمي:

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ} أي: اذكر وقت قوله صلوات الله عليه.
قال أبو السعود: والمقصود من تذكيره، تذكير ما وقع فيه من مقالاته عليه السلام على نهج التفصيل. والمراد به: تأكيد ما سلف من تعجبه عليه السلام ببيان فنٍ آخر من جناياتهم، حيث كفروا بالنعم الخاصة بهم، بعد ما كفروا بالنعم العامة. وعصوا أباهم إبراهيم عليه السلام حيث أسكنهم بمكة شرَّفها الله تعالى لإقامة الصلاة والاجتناب عن عبادة الأصنام والشكر لنعم الله تعالى. وسأله تعالى أن يجعله بلدًا آمنًا ويرزقهم من الثمرات، وتهوي قلوب الناس إليهم من كل أوب سحيق. فاستجاب الله دعاءه، وجعله حرمًا آمنًا يجبى إليه ثمرات كل شيء. فكفروا بتلك النعم العظام، واستبدلوا بالبلد الحرام دار البوار. وجعلوا لله أندادًا وفعلوا ما فعلوا.
{رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ} يعني البلد الحرام، مكة المكرمة: {آمِنًا} أي: ذا أمن. أو آمنًا أهله {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ} أي: بعدني وإياهم: {أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ}.
{رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ} أي: كن سببًا في إضلالهم. كما يقال فتنتهم الدنيا وغرتهم، إشارة إلى أنه افتتن بالأصنام خلائق لا تحصى. والجملة تعليل لدعائه. وإنما صدره بالنداء إظهارًا لاعتنائه به، ورغبته في استجابته: {فَمَن تَبِعَنِي} أي: على ملتي وكان حنيفًا مسلمًا مثلي: {فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي} أي: فخالف ملتي: {فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي: فإنك ذو الأسماء الحسنى، والمجد الأسمى، الغني عن الناس أجمعين. وتخصيص الاسمين إشارة إلى سبق الرحمة.
{رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي} أي: بعض أولادي. وهم إسماعيل ومن ولد منه: {بِوَادٍ} هو وادي مكة: {غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} أي: لا يكون فيه زرع: {عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} أي: الذي حرمت التعرض له والتهاون به: {رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ} أي: لكي يأتوا بعبادتك مقوَّمة في ذلك الموضع. وهو متعلق بـ: {أَسْكَنتُ} أي: ما أسكنتهم هذا الوادي إلا ليقيموا الصلاة عند بيتك المحرم ويعمروه بذكرك وعبادتك وحدك. وتكرير النداء وتوسيطه؛ لإظهار كمال العناية بإقامة الصلاة.
{فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} أي: تسرع إليهم وتطير نحوهم شوقًا، فيأنسوا ويتعارفوا فيتآلفوا ويعودوا على بعضهم بالمنافع: {وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ} أي: فتجلبها إليهم التجار: {لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} أي: نعمة إقامتهم عند بيتك المحرم بالصلاة فيها، على كمال الإخلاص والتوحيد، مع فراغ القلب. اهـ.